ومما ينبغي أن يتنبه إليه القواعد والضوابط للتعبير عن الرأي فنقول :
قواعد وضوابط التعبير عن الرأي:
1- أن يكون الرأي مستنبطا من شرع الله تعالى ،لا أن يكون فهما خاصا يُعبِّرعنه الإنسان، ويكون مخالفا للشرع وقواعده، وفهمِ سلف الأمة الأخيار، واللغةِ العربية ، ولو لم يكن منصوصا عليه بعينه ، فإن الكثير من الأراء التي يحتاجها الناس ليس فيها نص ، ولم ينطق بها الشرع بعينها ، وإنما هو النظر بمالايخالف الشرع ، ويحقق المصحلة المعتبرة ، وقد قرر ذلك ابن القيم رحمه الله في كتابه (الطرق الحكمية) أبين إيضاح ، وذكر ماجرى من حوار في هذا الشأن بين أبي الوفاء بن عقيل وبين عالم شافعي ،وأما إن كان الرأي مخالفا للشرع ، أو محققا لمصالح ملغاة في الشرغ ، ويحقق مفسدة فلا يجوز التعبير عنه مطالبة به، ولا الأخذ به ، وفي هذا يقول ابن القيم رحمه الله في كتابه مدراج السالكين بعدما ناقش بعض الطوائف ؛ومنهم أهل الكلام قال:"وهؤلاء كلهم داخلون تحت الرأي الذي اتفق السلف على ذمه وذم أهله ، فهم أهل الرأي حقا الذين قال فيهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه : إياكم وأصحب الرأي فإنهم أعداء السنن ،أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها فقالوا بالرأي فضلوا وأضلوا ،وقال أيضا : أصحاب الرأي أعداء السنن ، أعيتهم أن يحفظوها ،وتفلتت عليهم أن يرووها فاشتغلوا عنها بالرأي ،وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه : أي أرض تقلني ،وأي سماء تظلني إن قلت في كتاب الله برأيي ،أو بما لا أعلم ،وقال عمررضي الله عنه : ياأيها الناس إن الرأي كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم مصيبا ؛لأن الله عزوجل كان يريه ، وإنما هو منا الظن والتكلف"
فلايجوز القول بدون أثارة من علم ،وقد شدد العلماء في هذا فقال ابن تيمية رحمه الله : " فلو أنه أصاب المعنى في نفس الأمر لكان قد أخطأ؛لأنه لم يات الأمر من بابه " ثم مثل بمثال فقال :"سمى الله القَذَفَة كاذبين فقال تعالى : ﴿ فإذ لم يأتوا بالشهداء فأؤلئك عند الله هم الكاذبون ﴾ فالقاذف كاذب ولو كان قد قذف من زنى في نفس الأمر ؛لأنه أخبر بمالايحل له الإخبار به ، وتكلف مالا علم له به ".
2- إذا كان الرأي يتعلق بأشخاص أو هيئات ومؤسسات ونحوها فلابد من الاحترام في طرح وجهة النظر؛ لتكون أدعى للقبول، وأوفقَ لمراد الله تعالى حيث يقول تعالى ﴿ وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن..﴾ قال ابن كثيررحمه الله : "أمر تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يأمر عباد الله المؤمنين، أن يقولوا في مخاطباتهم ومحاوراتهم الكلام الأحسنَ والكلمة الطيبة؛ فإنه إذ لم يفعلوا ذلك، نزغ الشيطان بينهم، وأخرج الكلام إلى الفعال، ووقع الشر والمخاصمة والمقاتلة، فإن الشيطان عدو لآدم وذريته.." ، فالتهجم على الذات الإلهية أو على شخص النبي عليه الصلاة والسلام ودعوته ، أو على شعائر الدين بالاستهزاء ونحو ذلك انحرافٌ مبين ، وزيغ كبير،والعالم يشهد اليوم صورا فاضحة لانتهاكاتٍ لحقوق كبيرة تحت غطاء "حرية التعبيرعن الرأي" ، فيُسب النبي صلى الله عليه وسلم ويصور بصور بشعة ،متجاهلين كل النصوص والأعراف والمواثيق التي تنص على حرمة ذلك ، ونحن على يقين من جزاء الله لهؤلاء ﴿إن ربك لبالمرصاد﴾.
3- أن يكون التعبيرعن هذا الحق وَفْق الوسائل المشروعة ، فلا يجوز بحال أن تُسلكَ سبيلٌ غيرُ مشروعةٍ للتعبير عن حق ؛كمن يستعمل المحرمات بقصد أن يتوب الناس مثلاً، وهذا الضابط هو الذي يميّز أهل السُّنة عن غيرهم وهذا هو الذي يكفل البقاء على الجادة مؤذناً بطاعة الله ورسوله. وليس نبل المقصد وحسن الهدف مسوغاً لمعصية الله ورسوله ومخالفة قواعد الشريعة، فإن ما خالفها ضررٌ وفساد ،ولا يترتب عليه مصلحة (وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً). وتأمل أن النبي صلى الله عليه وسلم كره استعمال الناقوس للإعلام بدخول وقت الصلاة – قبل الأمر بالأذان – لما فيه من مشابهة النصارى مع كون الهدف هو الدعوة إلى العبادة والاجتماع لها. ففي السنن أنه لما كثر الناس طلبوا أن يعلموا وقت الصلاة بشيء يجمعهم لها، فقالوا: لو اتخذنا ناقوساً وقال : بعضهم : لو اتخذنا بوقا ، وقال بعضهم : لو اتخذنا نارا، فنهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أمر بالنداء للصلاة .
4- أن يُـربط التعبير عن الحق بالمصلحة ؛ فما وافق مصلحة وغلب على الظن أنه سيُصلِح فعبِّرعنه ، وإلا فالحكمة في السكوت ، فما كل ما يُعلم يقال ، وما كل ما يقال يُصدَّق .وقد قال الشاطبي رحمه الله في الموافقات : " وقال علي: حدثوا الناس بما يفهمون؛ أتريدون أن يكذب الله ورسوله؟! فجعل إلقاء العلم مقيدا، فربّ مسألة تصلح لقوم دون قوم ، وقد قالوا في الرباني: إنه الذي يعلم بصغار العلم قبل كباره ، فهذا الترتيب من ذلك، وروى عن الحرث ابن يعقوب قال: الفقيه كل الفقيه من فقه في القرآن وعرف مكيدة الشيطان" وفي حديث معاذ رضي الله عنه كما في الصحيح لما قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : " أفلا أبشرهم ؟ قال : (لاتبشرهم فيتكلوا ) " ، فدل على أن من المصلحة أحيانا كتم شيء من العلم عن بعض الناس ؛خشية أن يضرهم ، وهذا درس من رسول الله صلى الله عليه وسلم ،مع العلم أن معاذا أخبر بذلك قبل موته خشية الإثم لكتم العلم .
5- أن يكون الرأيُ حقاً ،لاباطلا يُماحِك به الإنسان ويجادل ، ومن هنا فالمسلم يعلم أنه مسؤول أمام الله تعالى عن ما يلفظ به لسانه ؛ كما قال تعالى ﴿ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد ﴾ .وقد أورد ابن القيم رحمه الله كلاما نفيسا حول أنواع الرأي في إعلام الموقعين أسوقه هنا : " أقسام الرَّأْيُ: وإذا عُرِفَ هذا فَالرَّأْيُ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ: رَأْيٌ بَاطِلٌ بِلَا رَيْبٍ، وَرَأْيٌ صَحِيحٌ، وَرَأْيٌ هو مَوْضِعُ الِاشْتِبَاهِ ، وَالْأَقْسَامُ الثَّلَاثَةُ قد أَشَارَ إلَيْهَا السَّلَفُ فَاسْتَعْمَلُوا الرَّأْيَ الصَّحِيحَ وَعَمِلُوا بِهِ وَأَفْتَوْا بِهِ وَسَوَّغُوا الْقَوْلَ بِهِ، وَذَمُّوا الْبَاطِلَ وَمَنَعُوا من الْعَمَلِ وَالْفُتْيَا وَالْقَضَاءِ بِهِ وَأَطْلَقُوا أَلْسِنَتَهُمْ بِذَمِّهِ وَذَمِّ أَهْلِهِ ، وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ سَوَّغُوا الْعَمَلَ وَالْفُتْيَا وَالْقَضَاءَ بِهِ عِنْدَ الِاضْطِرَارِ إلَيْهِ حَيْثُ لَا يُوجَدُ منه بُدٌّ، ولم يُلْزِمُوا أَحَدًا الْعَمَلَ بِهِ ،ولم يُحَرِّمُوا مُخَالَفَتَهُ، وَلَا جَعَلُوا مُخَالِفَهُ مُخَالِفًا لِلدِّينِ بَلْ غَايَتُهُ أَنَّهُمْ خَيَّرُوا بين قَبُولِهِ وَرَدِّهِ ،فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ ما أُبِيحَ لِلْمُضْطَرِّ من الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ الذي يَحْرُمُ عِنْدَ عَدَمِ الضَّرُورَةِ إلَيْهِ "
6- الأصل في النصيحة للحاكم والمحكوم : الأصل في مناصحة الولاة والإنكار عليهم أن تكون بالسِّر لا بالجهر. وهو الأصل في النصيحة عموماً. فعن عياض بن غُنْم رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أراد أن ينصح لذي سلطان فلا يبده علانية, وليأخذ بيده فإن سمع منه فذاك و إلا كان أدَّى الذي عليه) ،وعن أسامة بن زيد رضي الله عنه أنه قيل له: ألا تدخل على عثمان لتكلِّمه ؟ فقال: (أترون أني لا أكلمه إلا أُسمعكم ؟ والله لقد كلَّمتُهُ فيما بيني وبينه من دون أن أفتح أمراً لا أحب أن أكون أول من فتحه) ومراده أنّه لا يفتح باب المجاهرة بالنكير على الإمام لما يخشى من عاقبة ذلك.قال الشوكاني – رحمه الله - :(ينبغي لمن ظهر له غلط الإمام في بعض المسائل: أن يناصحه ولا يظهر الشناعة عليه على رؤوس الأشهاد). والأصل في نصح عامة المسلمين أن ينصح المخطئ والمقصّر سراً وعلى ذلك كان السلف قال الفضيل بن عياض رحمه الله : (المؤمن يستر وينصح والفاجر يهتك ويعير) ،ومع ذلك فإنه إذا لزم الأمر ودعا الموقف إلى التشهير بمنكر وفاعله فإن ذلك سائغ ؛ إذا كانت المصلحة فيه راجحة على المفسدة ؛كما فعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بعث عمر على الصدقة فقيل منع ابن جميل. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (ما ينقم ابن جميل إلا أن كان فقيراً فأغناه الله). قال ابن حجر: (في الحديث العتب على من منع الواجب وجواز ذكره في غيبته بذلك)
7- وسائل إبداء الرأي اجتهاديَّة : لقد كلف الله تعالى هذه الأمة بإبلاغ الدين ونشر الرسالة (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ). وجعل ذلك سبب خيريتها ( كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) ، وجعل النصيحة من الدين ؛فعن تميم بن أوس الداري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (الدين النصيحة) قلنا لمن. قال: لله ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم) كما أنه كفل لأتباعه التعبير عن آرائهم فيما يسوغ لهم ذلك ، ولا تتحقق النصيحة والدعوة، والتعبير عن الرأي إلا بوسائل وطرق وأسباب للمسلم أن يسلكها ؛ليصل من خلالها لما يريد، ولو كانت حادثة لم ينص عليها الشرع ولم يستعملها السلف مادامت معبّرة عن المراد وموصلة إليه.
قال الشيخ عبد الرحمن بن سعدى رحمه الله: (لا ريب أن كل أمر مهم عمومي يراد إعلانه وإشاعته والإخبار به .. يُسلك فيه طريق يحصل به هذا المقصود .. ولم يزل الناس على هذا يعبرون ويخبرون على مثل هذه الأمور بأسرع وسيلة يتعمّم ويشيع فيها الخبر .. وكلما تجدد لهم وسيلة أسرع وأنجح مما قبلها أسرعوا إليها وقد أقرهم الشارع على هذا الجنس والنوع ووردت أدلة وأصول في الشريعة تدل عليه فكل ما دل على الحق والصدق والخبر الصحيح مما فيه نفع للناس في أمور دينهم ودنياهم فإن الشرع يقره ويقبله, ويأمر به أحياناً ويجيزه أحياناً, بحسب ما يؤدي إليه من المصلحة .. فاستمسك بهذا الأصل الكبير فإنّه نافع في مسائل كثيرة ويمكنك – إذا فهمته – أن تطبق عليه كثيراً من الأفراد والجزئيات الواقعة والتي لا تزال تقع ولا تقصر فهمك عنه فيفوتك خيرٌ كثيرٌ وربما ظننت كثيراً من الأشياء بدعاً محرماً إذا كانت حادثة ولم تجد لها تصريحاً في كلام الشارع, فتخالف بذلك الشرع والعقل وما فطر عليه الناس ... و الترجمة التي يحصل بها العلم لم يزل العمل بها على أي طريقة و صفة كانت, ويدل على هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أَمر بالتبليغ عنه وتبليغ شرعه وحث على ذلك بكل وسيلة وطريقة ... و الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أكبر واجبات الدين, ومن أعظم ما يدل في ذلك أنَّه إذا ثبتت الأحكام الشرعية التي يتوقف عمل الناس بها على بلوغ الخبر, فإنّه يتعيّن على القادرين إيصالها إلى الناس بأسرع طريق, و أحسن وسيلة يتمكنون بها من أداء الواجبات وتوقّى المحرمات). ،والسبب في هذا أن الوسائل من قبيل العادات والأصل فيها الإباحة قال الشاطبي – يرحمه الله- : (و التبليغ كما لا يتقيّد بكيفيَّةٍ معلومة؛ لأنه من قبيل المعقول المعنى, فيصح بأيّ شيء أمكن من الحفظ والتلقين و الكتابة وغيرها).
8- أن القول بالرأي في الدين وقضاياه ؛قسمان : قسم لايجوز فيه القول بالرأي ؛ لأن الله تعالى تعبدنا به ، وأمرنا بالانقياد له ،ولا يصح القياس فيه ، فليس لأحد أن يقول بزيادة ركعة في صلاة من الصلوات الخمس المفروضة ، وعليه يُحمل ماورد عن علي حيث يقول : " لو كان الدِّينُ بِالرَّأْيِ؛ لَكَانَ أَسْفَلُ الْخُفِّ أَوْلَى بِالْمَسْحِ من أَعْلَاهُ ،وقد رأيت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَمْسَحُ على ظَاهِرِ خُفَّيْهِ ". مع أن ما يتسخ غالبا هو الأسفل حال المشي على الخفاف؛ولكن المسح المشروع هو لما كان أعلى الخف، وقسم : يجوز القول فيه بالرأي إن لم يكن ثم نص.
قال المناوي : " المصير إلى الرأي إنما يكون عند فقد النص كما يشير إليه قول الشافعي فيما خرجه البيهقي بسند قال ابن حجر: صحيح إلى أحمد؛ سمعت الشافعي يقول :القياس عند الضرورة ،ومع ذلك فليس العامل برأيه على ثقة من أنه وقع في المراد من الحكم في نفس الأمر، وإنما عليه بذل الوسع في الاجتهاد ليؤجر ولو أخطأ " .
9- (لا حد لحرية الرأي والفكر في الإسلام ، إلا الحفاظ على أصول الدين وأركان الإسلام وقيمه وحدوده ، ورعاية المصالح العامة . فالاجتهاد مباح ومطلوب ، في أمور الدين والدنيا ، ولا ينُكر منه إلا ما يهدم أصلا من أصول العقيدة أو التشريع ، أو يهدر قيمة خلقية من أخلاق الإسلام ، أو يقصد فتنة الناس وإضلالهم . فحرية الرأي المنضبطة بضوابط الشرع ، تبني المجتمع الإسلامي ، وتصحح أخطاءه ، وتبصره بطريق الهداية والفلاح في أموره العامة .
ولم تكن حرية الفكر والرأي ، مطلقة في أي مجتمع ، للذين يخرجون على ما تقرر من أصول الاعتقاد ومكارم الأخلاق ، مهما كانت معتقداتهم ، فالحرية المطلقة ، هي الفوضى المطلقة ).
انتهى.
إعداد : محمد بن عبد الله بن سليمان الدخيل
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
مرحبا بك أخي القارئ...
يسعدنا رأيك ومشاركتك في نقد مواضيعنا في كل حين..