مشكلات المثقف (2)


تحدثنا في المقال السابق عن مشكلتين من أهم المشكلات التي يتعرض لها المثقف المسلم أو صانع الخطاب الإسلامي. واليوم نحاول إتمام الحديث بذكر ثلاث مشكلات أخرى نسوقها في الحروف الصغيرة الآتية:
1- التحزب أو الانحياز الفكري خطر آخر يهدد المثقف المسلم وغير المسلم. إن عظمة الأفكار تكمن في قدرتها على الرفرفة، وفي طلاقتها وقدرتها على التعبير عن الكرامة الشخصية والتعبير عن حرية الإدراك والقرار.
وهذه السمات تشكل الأساس الذي نمنح بناء عليه المصداقية للمجتهد والمفكر والداعية. إن المفكر الحر لا يستند في حريته الفكرية إلى التأبي على المساومة والتوظيف من قبل أصحاب المال والنفوذ فحسب، وإنما يملك إلى جانب ذلك المنهج الذي يمكنه من مقاومة (التأطير) الذي يهدد كل صانعي الخطاب. هناك فرق كبير بين مفكر اتخذ من مبادئه وعقيدته وخلاصة تجربته خلفية فكرية وثقافية توجهه، وإطاراً يتفاعل معه، ويتحرك في داخله، وبين مفكر انتسب إلى حزب أو جماعة أو مؤسسة، أو صار موظفاً لدى دولة، فأصبح ولاؤه الجديد عبارة عن إطار داخل الإطار الإسلامي، وأحياناً يتحول إطاره من إطار صغير إلى إطار كبير يتداخل مع الإطار الإسلامي، وهذا يعني أن ذلك المثقف أو المفكر صار منحازاً إلى رؤية جزئية أو اجتهاد فئوي، أو صار معبراً عن مصالح ضيقة لا تتطابق مع مصالح الأمة.

ليس هناك خطورة كبيرة في الأصل في أن يجد المرء نفسه ميالاً إلى اجتهاد دعوي أو إصلاحي دون غيره، لكن من المهم أن يكون على وعي بأنه مهدد بالتقزم الفكري والانحسار في الفهم للخريطة الفكرية والثقافية التي يجب أن يدركها، ويستحضرها عند تحليله وتقويمه للأشياء. وحين يتوفر هذا الوعي فإن المثقف المسلم سيعمل دائماً على محاولة التحرر من قيود ثقافته وانتماءاته وذلك من خلال رؤية الأشياء من زوايا متعددة، ومن خلال الحرص على تفهم طروحات الآخرين والحرص على إنصافهم.

2- كثيراً ما يشعر المثقف أنه يرى ما لا يراه غيره ممن يحيطون به، وهذا كثيراً ما يولّد لديه مشاعر نرجسيّة صفويّة، كما يولّد لديه الاعتقاد بإمكانية فهم الواقع ومعرفة هموم الناس من غير مخالطتهم، وقد لاحظنا أن تشكيل ثقافة النخب قد تحول إلى ما يشبه الصناعة المغلقة؛ فصور الواقع يرسمها المثقفون، ويقومون بتحليلها، ويتداولونها بينهم، وهم وحدهم الذين يبتكرون الحلول للمشكلات ويشخّصون الخارج من الأزمات، وكثير منهم تكيّفوا مع أفكارهم، ويتوحّدون مع ذواتهم لاعتقادهم أنهم يعيشون في مجتمعات جاهلة وفاسدة، وهذا ما يجعلهم يشعرون بالغربة والعزلة الهامشية. وقد انعكس ذلك على طروحاتهم التغييرية، فهي ما بين سوداء ورماديّة!

إن الشعور بالتفوق شيء يصعب الاحتراز منه، وكون المثقف يرى ما لا يراه غيره صحيح نسبياً، لكن لا ينبغي لهذا وذاك أن يحرمنا من التغذية الراجعة وقراءة ردود أفعال الناس على ما نخاطبهم به، كما لا يصح أن يحجبنا عن سبر الواقع عن طريق الإحصاء والمعايشة الفعلية وعن طريق الحوار مع الناس العاديين المستهدفين بالرسالة التثقيفيّة.

3- إذا عدنا إلى الوراء مئة سنة من الآن، فسنجد أن المثقف النخبوي كان هو الأكثر أهمية على الساحة، ونخص بالذكر طلاب العلم الشرعي وحاملي الثقافة الشرعية. إنهم يشكلون المرجعية للناس، ويؤثرون فيه ويعيشون معهم ألوان معاناتهم اليومية. أما اليوم فقد اختلف كل هذا على نحو جذري، وهذا الاختلاف يعود إلى وجود خطابات عديدة تنافس الخطاب الإسلامي، وتشوّش عليه، كما أن وظيفة الثقافة العليا إسلامية وغير إسلامية، في صياغة الثقافة الشعبيّة وتوجيهها قد تراجعت إلى أدنى مستوياتها. وما نسمع عنه اليوم من متابعة وتصويت لبعض البرامج المخجلة والتافهة، يوضح لنا أن تنظير المثقفين ومعالجاتهم باتت في واد، وبات معظم الناس في واد آخر.

إن الخطاب الثقافي النخبوي وكذلك الخطاب السياسي يفقد زخمه وتأثيره وجاذبيته على سبيل التدرّج بسبب التغيّرات العالمية، ولا سيما ما حدث على صعيد الثورة التقنية في مجال البث والاتصال. والحقيقة أن التغيرات التي حدثت خلال السنوات العشر الأخيرة؛ وذلك بسبب بروز مؤثرين جدد في الحياة الاجتماعية من خارج الدوائر التقليديّة لصناعة الفكر والمعرفة.
وقد صار لرجال الأعمال والإعلام ومهندسي الحاسبات ومصممي الأزياء ونجوم الطرب والكرة- حضور قوي ومتابعة شعبية كثيفة، تفوق متابعة رافعي مشاعل المعرفة وموقدي مصابيح الفكر. ومن المؤسف أنك حين تلتقي بكثير من صانعي الخطاب الإسلامي تجد أن طروحاتهم ورؤاهم وآمالهم في الإصلاح والتجديد والنهضة بعيدة كل البعد عن اعتبار المعطيات الجديدة، وذلك لأنهم يكفرون بالطريقة نفسها التي فكر بها أسلافهم قبل ثلاثة قرون.

وقد صار لمن كانوا يُسمّون بالعامة والغوغاء وضعيّة عامة تؤثر فيها الأفلام والمطاعم الأمريكيّة، والأذواق والأزياء الأوروبيّة على نحو طاغٍ ونافذ، ولم يشعر كثيرون منا بهذا، ولا حاولوا التكيف معه على نحو إيجابي.

إن على المثقفين أن يدركوا حدودهم الجديدة، وأن يعيدوا النظر في المفاهيم والمقولات التي كانوا يدركون من خلالها الواقع العام للأمة. كما أن عليهم أن يدركوا على نحو دقيق ما تبقّى لهم من دوائر التأثير، ويحاولوا الاستثمار فيها بشكل مكثف، بالإضافة إلى إدراك المسؤوليات الجديدة التي فرضتها التغيّرات الإيجابيّة والسلبيّة الحديثة.
إن التأمل هو التفكير ، وليس هناك شيء أولى بتسليط نور الوعي عليه من الوضعيّة التي صار إليها أولئك الذين عليهم أن يشخّصوا أدواء الأمة، ويصفوا لها العلاج.

بقلم / عبد الكريم بكار

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مرحبا بك أخي القارئ...
يسعدنا رأيك ومشاركتك في نقد مواضيعنا في كل حين..